الوجه الزائف - قصة قصيرة

بقلم: عبد الرحمن ياسر


حل صباح يوم الاثنين، اليوم المنتظر بلهفة وشوق، كان هذا يوم استخراج الأوراق والمستندات النهائية للسفر، لكنه ليس بأي سفر، فهي فرصة عمل ذهبية في إحدى الدول الأوروبية، ستكون الطائرة بانتظار راكبها في مساء نفس اليوم، والآن ليس علي سوى استخراج المستندات النهائية – الختم الذي سيمكنني من العبور والانتقال إلى عالم الحضر والنجاح، عالم الرقي والرفاهية..

صديقي أحمد – أعز أصدقائي وأقربهم إلي، ومنافسي في العمل، حظي كذلك بنفس الفرصة، فسوف يكون بجانبي في الغربة الموحشة، وسيساعدني بقضاء كل مصالحي وحاجاتي قبل السفر، فهو الصديق القريب الصادق الخدوم، الذي يساند من يحتاجه، ويكرم من يسأله؛ فسوف يكون معي في السفارة لدرايته بمستلزمات السفر والإجراءات اللازمة، كما أن اليوم هو آخر يوم لاستخراج الأوراق وميعاد السفر في المساء قبيل العشاء، فإذا لم تقدم الأوراق ضاعت فرصتي الذهبية...


ذهبت إلى بيت صديقي، وعقلي وبالي مشغولان بما ينتظرني في اليوم التالي، يوم النجاح والوصول إلى وجهتي. طرقت الباب، وفورًا فُتِح الباب ليكشف وجهًا بشوشًا تبدو عليه ملامح الحسن والأخلاق، عرفت من فورها أنه صديقي العزيز. وكعادته الكريمة، استقبلني استقبال الأخ لأخيه، ورحب بي ترحاب الكرام المكرمين، ثم انطلقنا متجهين إلى السفارة الأجنبية وأنا في سعادة غامرة وحماسة ونشاط..

وصلنا إلى المبنى الفخم المحاط بالأسوار والمراقب بالكاميرات ورجال الأمن، هناك وقف الباب الذي لطالما حلمت به – باب السفارة. دخلت مع صديقي، وأنا أفيض بالحماس، استخرجنا معًا الأوراق المطلوبة، ولم يبق سوى مستندات نهائية، وبعض الأختام الأخيرة؛ تركني صديقي وذهب للقيام بالإجراءات النهائية حتى لا يحملني عناء الوقوف في طابور الانتظار والسفارة مكتظة بالناس من كل لون وعرق، فوجدت مقعدًا صغيرًا وجلست أنتظر صديقي..

انتظرت وانتظرت، ثم غفوت لبرهة، والساعة تدق، والدقائق تتفاوت، والساعات تتوالى، وأنا مستغرق في نومي، وصديقي لم يأت بعد؛ وعندما استيقظت، كانت الشمس قد غربت..

نظرت إلى ساعتي في فزع، كيف لي أن أنام كل هذا الوقت، وصديقي - أين ذهب!؟ ميعاد الطائرة بعد ساعة أو أكثر بقليل، وحقائبي وأمتعتي في سيارة صديقي الذي لم يأت بعد. انتفضت من مجلسي وتوجهت إلى الباب سائلًا رجل الأمن عن صديقي؛ "أين هو – أين ذهب!؟" ووصفت له أحمد وصفًا دقيقًا؛ تغير وجه رجل الأمن، وبدت عليه علامات الأسف والشفقة، ثم كانت المفاجأة الكبرى، حينها قال لي: "لقد رحل صديقك منذ حوالي ساعتين، وترك لك هذه الحقائب وهذه الرسالة."

رحل! وكيف له ذلك!! لقد اتفقنا على أن يقوم بالاجراءات النهائية ومن ثم ننطلق معًا إلى المطار.. فتحت الرسالة، وجاء بها ما لم تصدقه عيناي وما لم يستوعبه عقلي، فقد جاء فيها:

"هذه هي الحياة، والفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة، وأنا انتهزتها، أما أنت فقد منعتك ثقتك العمياء وسذاجتك من رؤية الحقيقة واستغلال الفرصة، أنا متجه إلى المطار لأحظى بالمستقبل الذي أستحقه، أما أنت فذرك في عالمك الوهمي المليء بالمشاعر التي لا تنفع، فلا مكان  للفاشلين المغفلين أمثالك – وأنت كنت تصدقني طوال الوقت.. يا لك من غبي!!!     

- أحمد "

نزلت الكلمات كالصاعقة، تقتل كل إحساس بالثقة أو الحب تجاه هذا الصديق الوهمي، كل كلمة تمزق قلبي، وتمحو كل لحظة فرح كاذبة عشتها معه؛ كان هناك وجه عابسٌ جهم وراء كل ضحكة من ضحكاته؛ ما لبث أن وجد فرصة حتى نسي ما كان بيننا من ود وصداقة حسبتُها باقية، لكنها في الحقيقة لم تكن إلا أكذوبة صدقتها بسبب ثقتي العمياء..

لم أتحمل من فورها فأغمى عليَّ من هول الموقف، وسقطت على الأرض الباردة القاسية، وأفلتت قبضتي الرسالة؛ التف الناس من حولي، والأبصار كلها تحدق إلى عيني اللتين أغلقتا ببطء، آخر ما سمعت كانت أصوات الناس المتعالية وصوت سيارة الإسعاف تقترب..

لقد تركني وذهب، غدر وخان؛ تركني نائمًا وأخذ معه كل مستنداتي وأوراقي ليمنعني من السفر؛ تركني أتألم وأتوجع، أبكي على الأيام التي ضاعت وهو يخدعني بوجهه المزيف، يضع قناعًا أحسبه وجهًا، أنانيٌ يريد النجاح دون غيره، أنانيٌ دمر حلمًا وفرصة لن تعوض.. وتلك التجربة رغم قسوتها ومرارتها إلا أنني تعلمت أنه ليس كل ما يلمع ذهبًا، وأن الأصدقاء الحقيقيين الذين يرجون لك الخير والنجاح أعدادٌ لا تذكر وسط عالم مليء بالخداع والكذب، كل امرئ يسعى فيه لمصلحته الشخصية؛ عالم تتلون وتتبدل فيه الناس، يضيع فيه ذوو الظن الحسن – أو كما يطلق عليهم من قِبَل العامة: المغفلون..


هناك تعليق واحد: