بقلم:
عمر أيمن
عندما
كنت صغيرا لطالما كنت وحيدا، ولطالما لم أجد صديقا، وكنت دائما ما أنظر إلى
الأصدقاء بعينٍ يملؤها الإزدراء، وربما
يرجع السبب في هذا إلى افتقاري إلى صديقٍ يملأ وقت فراغي. وعندما بلغ بي الضجر مداه وسئمت من هذه الحال، لجأت إلى مغير
الأحوال، فجعلت أطلب منه صديقا، أسكن إليه حينا، ويكون أمين سري، وبهذا تقر عيني،
وإن خنته يوما أو أضمرت له شرا، ليحل على مقتك ولتصب عليّ غضبك، وليكن هذا عهدًا لأكونن له أمينًا.
وبعد طول انتظار ولوعة ونار أخيرا وهبني الله ونيسًا. كانت رؤيته ولا النور بعد
الظلام، أو التائه الذي أرشده الفرقدان، فكان مستدير الوجه وكانت ملامحه آية في
الحدة كأنما قدت من الحجر -ومع ذلك فلم تثر فيّ الضجر؛ أما عن قده، وكان أفضل حالا
من ملامحه، فكان عريض
المنكبين طويل القامة وكان جسده قويا، ومع ذلك لم يكن في يومٍ من الأيام عتيا، أما
أنا فكنت على النقيض تماما، فكنت آنذاك سمح الملامح، وجسدي كان أقرب إلى الهزيل منه إلى القوي، فكان منظرنا كمنظر الهلال
بصحبة الصليب المسيحي؛ فكم مرة تعرضنا للسخرية من الزملاء، وكنا محلًا للإزدراء.
لكني دائما ما أيقنت أن الصديق لا يجب أن يشبه صديقه في كل شيء، بل إن الأصدقاء
هم من إذا ما مزجت شخصياتهم أصبحت النتيجة كيانا متكاملا لا ينقصه شيء. لذلك لم
اعرهم أي اهتمام، فقد كان بصحبتي خير الأنام في هذه الأيام، فلو أفضت
في ذكر محاسنه، لتحدثت وأفضت ولقلت قولا يسمع الصم، وينزل العصم، ولكني أختصرت
الكلام، خوفا من أن يخونني البيان، فلا أوفيه حقه، أو أسلبه واحدة من شيمه، التي
يخطؤها الحصر، وينقصها القصر. ولهذا فإن سخريتهم من تناقد مظهرنا كانت توطد
صداقتنا، تماما كعود زاده الاحراق طيبا.
ولكن سرعان ما عصفت بنا أيام الصبا دون أن
نلحظها، سبع سنوات انقضت وقد عاشرته حتى عصرت أعصره وحلبت أشطره، والحق أني لم أرى
منه إلا الشطر الطيب، فما من مرة شعرت وأنا بصحبته أن صدري قد ضاق، وللأسف حان الأن
حان وقت الفراق؛ فكلٌ سيلتحق بجامعته، ومن ثم يبدأ في البحث عن مصدر رزقه.
فتعاهدنا على أن نبق دائما على اتصال، وألا يحول بينتا الإنفصال.
وسرعان ما انقضت
الإجازة، وحان وقت أول يوم في الدراسة.
فعقدت العزم، وذهبت وأنا عاتل الهم، وكلي خوف أن أعود إلى سابق عهدي، ولكن ما حدث
كان على نقيض ما خطر على بالي، فلقد تعرفت على مجموعة من الزملاء وانغمست وسطهم، و كانوا
من ذوي الشعبية الطاغية في
الجامعة وأردت أكون مثلهم، كما انجذبت إلى شخصياتهم، فكانوا مختلفيين عن الأصدقاء الذين
اعتدتهم، فكان منهم ذو اللسان البذئ،
ومنهم العربدي، وكان أكثرهم إيمانا ذلك الفتى التقي الذي أسميناه السكير الأبدي.
وبعد
حين تخرجنا وانقضت تلك الحقبة، وتفككت تلك
الصحبة، وذهبت كي أقابل ونيس بعد أن جمعت بيننا مهنة التدريس، ولكني اكتشفت أن ذلك
الخليل، لم يتبق منه إلا القليل، فلم يعد ذلك
الصديق، الذي كان يُخرِج من صدري الضيق؛ فظننت أنها فترة وستنقضي إلى حالها، ولكني
تماديت في مدها، بل وبدأ ذلك
الشعور، يرسخ
في قلبي مما أنذرني أن صداقتنا بدأت تبور، ثم جعل ذلك الإحساس يتوغل ويزيد، وكلما حاولت ردعه طلب
المزيد، وبدأت أشعر
بالسقم تجاه ذلك البغيض، فقد بدأ ينتقد أسلوبي، ويقوم سلوكي، فشعرت
أنه أصبح مصدرا للقلق، تماما كالشوكة في الحلق. وبعد فترة وجيزة فقدت الوازع الذي
كاني يحملني عن الإذعان لهذا الشعور، فبدأت صداقتنا في البهوت، حتى أصبحت أوهن من
بيت العنكبوت، بل وشعرت بأن أوقات العمل برفقته قد أصبحت سقيمة، وأنها لا توصف
بأي من الأوصاف ماعدا عديمة القيمة.
فقررت أن أعمل على التخلص منه، ولاسيما أنه
بدأ يتميز عني في العمل، فقد ذاع صيته،
واتسعت شهرته. فبدأت وراءه أدور، وأبحث عن العيوب والقصور، وعملت على تشويه صورته،
فنتشت ريشه حتى تلطخت سمعته، وأخيرًا تقرر فصله. وباتت أمامي الفرصة كي أظهر تميزي،
فلم يبقى أمامي عائقٌ سوى ذلك الهاجس الذي يتابعني. ولكني انهزمت أمامه هزيمة
نكراء، وللأسف عدت إلى أولائك الأصدقاء، وانغمست معهم في الملذات والمسرات، سواءً
أكانت من المحللات أم المحرمات. ولكني دائما ما كنت أتهرب من حساب الذات، ففي
البداية كنت
أشعر بالندم تجاه ذنوبي، وشيئا فشيئا بدأ هذا الشعور ينطفئ داخل قلبي، فانقلبت من نادمٍ عن الخطيئة إلى
داعٍ لها، حتى بدأت في الاستقطاب، فمنهم من أذعن ومنهم من أصر على الصواب.
وفي يومٍ من الأيام وقد
انتهت سهرتنا في الحان، وانطلقنا في
رحلة من
رحلاتنا وقد اضعنا الملل في الطريق ببعض المخدرات، حتى خانني
البصر، وحانة ساعة القدر، فاقتربت السيارة بحافلة كانت بجانبنا مارة، ولم أنتبه
إليها حتى اصطدمت
بها.
وفجأة لم أشعر بنفسي، وفقدت وعي، ثم أفقت
وأنا في المشفى، ولكن اللحمد لله لم
يلحق بي أي أذى. وفجأة خطر الثلاثة على بالي، فسألتهم عن حال أصدقائي - فتعجبوا
وقالوا لي أي أصدقاء؟ فسألتهم ألم يكن معي في هذا الحادث ثلاثة شركاء؟ فردوا على
قائلين أني كنت وحيدا
داخل السيارة،
وأني حملت إلى هنا بواسطة بعض المارة. فبهت وصعقت، وعلمت بأي صحبة ونيسًا استبدلت،
وتذكرت العهد الذي قطعته على نفسي أيام طفولتي، وها أنا ذا قد نقدته فصب الله علي غضبه،
وبدأ يسلب مني نعمه، وهذا كله نتيجة أخطائي، فقد انكببت عليهم بعد أن جذبوني، وها
هم الأن قد لفظوني،
وتركوني وأنا
فاقدٌ الوعي.
وفي اليوم التالي سألت الأطباء ألم يأتي أحدٌ ليعودني؟ فقالوا لقد
جاء رجلٌ يدعى ونيس الأنصاري، وهو الأن في أنتظار إفاقتك، فانتابني شعورٌ قد نسيت
طعمه منذ زمن بعيد، كان شعورا عذبا، يملأ القلب طربا، ولكن سرعان ما استحال هذا
الشعور كدرا، وامتلأ قلبي ذنبا، فلقد سلكت كل السبل كي أتسبب في طرده، بل وجعلت
سمعته في الحضيض في حين هرع إلى إليا عندما علم أني مريض، وبعد بضع دقائق دخل علي،
ولم أدري ماذا أقول له، فما كادت عيني ترقى إليه حتى تسهل، وبينما كان يهيمن
علينا السكون أجهشت بالبكاء، وجعلت أرجوه أن يسبل لي ذيل المسامحة، فما كان منه
إلا أن سامحني على شرط ألا تتكرر حتى الممات، فعاهدته وقبلته قبل أن ينصرف.
وبعدها
وقد بدأت أعد الأيام الباقية حتى أخرج لحياة الحرية، وبالفعل خرجت من المستشفى وبدأت
أبحث عن وظيفة، ففتحت الجريدة وبحثت فيها، حتى وجدت مدرسة باحدى الدول العربية
بحاجة إلى مدرس، فبعثت إليها بجواب، وحمدا لله كان الجواب بالإيجاب، فقد
قبلت فيها ولم يبقى سوى أن أسافر لأزاول الوظيفة، وبالفعل جهزت حقائبي ثم سلمت على
صديقي وسافرت
كي أبدأ حياة جديدة، وإن واجهتني أي محنةٍ، عندي من الحنكة ما يمكنني من تخطيها.
فما عدت ذلك الطفل الذي ما أن يجد صحبة حتي ينغمس فيها. فأخيرا توصلت إلى أن
الصديق ليس كالبهلول، الذي نضيع معه وقت الفراغ، كما أنه ليس بالشخص الملول، الذي
يجب على صديقه أنت يتمسك بصلتهم فإما أن يجيب بالرفض أو بالقبول - بل الصديق من
يدلنا على الطريق، الذي يعلمنا كيف نخرج من الكبوة ونفيق، وإن كان في بعض الأحيان
سيشعرنا بالضيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق